مقالات سياسية

عم الجنيد وكلية الخرطوم وعمر البشير الكذاب

 د. طارق الشيخ

في ديباجتها كتبت كلية الخرطوم التطبيقية “مؤسس الكلية هو المرحوم (الأستاذ عبد الله محي الدين الجنيد 1925/2008) الذي كان رمزاً من رموز الإستنارة الوطنية و الثقافية وأحد أبكار التشكيليين السودانيين وعميدهم، كان من طليعة المثقفين السودانيين قبل الإستقلال فهو من أوائل الدارسين للفنون في كلية غردون التذكارية ثم تابع دراستها في مصر وفي الكلية الملكية للفنون بجامعة لندن – المملكة المتحدة (1957م .”

اظل معتزا بأني عشت وتعرفت وعملت مع رجل في قامة العم عبدالله الجنيد.
وطوال سنوات وعقود ثلاث من حكم الإنقاذ ظللت كاتما لهذا السر الذي عرفه فقط قلة من المقربين جدا مني ولمناسبته وحتى لايضيع وسط أكوام المشافهة السودانية.
كتبت عنه في مقالات نشرته تلميحا على موقع الراكوبة أولا لحفظ الموضوع لحين وقته .. وحتى لايقال أنه محض خيال ، والسبب الثاني وهو بديهي خوفا من بطش المتربصين بعم الجنيد وصرحه العظيم كلية الخرطوم التطبيقية حتى من بعد وفاته.

أصل الحكاية : ظللت أتابع بقلق ثلاث موجات من التفتيش الدقيق من قبل قوة أمنية خاصة على منزل الجنيد وكلية الخرطوم التطبيقية خلال فترة وجيزة عقب إنقلاب الإنقاذ مباشرة.

كانت الأشهر الثلاثة التي تلت الانقلاب كابوسا على الكلية ومستقبلها وخطر داهم على المؤسس وعائلته الكريمة . مرة ثم مرة ثم مرة ، لم يترك فيها فريق رجال الأمن ورقة على ورقة في المنزل أو في الكلية تنقيبا عن شيء لا أحد يعرف ماهو . البعض ذهب الى أن رجال الأمن كانوا يبحثون عن شيوعيين مختفين في بيت أو الكلية .. ثم خرجت تلميحات من رجال الأمن بان السبب الرسمي إتهام لعم عبدالله الجنيد بأنه يخفي مطابع للحزب الشيوعي في أحد المكانين . لم يعثروا في المرات الثلاث لا على طابعات ولا حتى ورق للطباعة ولا على مختفين. ومع ذلك استمر الحرص والدأب على هذه الزيارات المتكررة وبجيش من رجال الأمن . في ذلك الصباح طلب مني الأستاذ عبدالله الجنيد أن امر عليه في المكتب.

توجهت الى المكتب وبدأ حديثه هادئا مبتسما كعادته : ياطارق الطلاب بيشتكوا في قسم الاعلام – وهو القسم الذي أعتز وأفخر بأني قد أسسته ودرست فيه – من محاضراتك بيقولوا أنها تخوف لأنك تتحدث عن حكومة الإنقاذ ؟ وزاد على ذلك بيقولوا أنهم خايفين رسمي خاصة وأن شقيقة البشير صفية ضمن الطلاب.

استمعت لكلماته وقلت : لكني لم أقل أبدا مايخيف ؟ صمت وأدركت المقصود ابتسمت وقلت له : لكني أتناول في محاضراتي تاريخ الصحافة الأنجليزية والتاريخ بطبعه جامد بارد . ثم قلت الان فهمت .. محاضراتي عن مؤسسي الصحافة الصفراء في بريطانيا وعن الرقابة على الصحافة وكيف تحول أشد الناس حرصا على حرية الصحافة الى ألد أعداء حرية الصحافة ومن كانوا يمارسون الرقابة على الصحف تحت قبة البرلمان أصبحوا من أهم الشخصيات التي أرست حرية الصحافة في بريطانيا والعالم.

كنت أتحدث عن دانيال ديفو الذي أصدر صحيفة ” ويكلي ريفيو ” والذي اشتهر بكتابه ” روبنسون كروزو ” . وتحدثت عن جونثان سويفت والذي تولى صحيفة ” إكزامينر ” واشتهر أيضا بكتابه مغامرات جليفر . ويعتبر سويفت تاريخيا هو أب مابات يعرف في الصحافة بالمقالة الافتتاحية التي ظل يكتبها في الصحيفة . ولدهشتي أجمع الطلاب وقتها على انهم لم يقرأوا أيا من الكتابين ولا ماكتب عنهما من قصص في المجلات . وقد أثارت هذه المعلومة غضبي واستغرابي . ووجهت حديثي للطلاب مادمتم لاتعرفون ديفو وسويفت وروايتيهما الأشهر أريدكم ان تعرفوا شئيا وهو أنه “لا توجد صحافة حرة الا في ظل حياة ديمقراطية داخل  المجتمع “.

ولتقريب الفكرة ضربت لهم مثلا بما عايشوه وكيف أن السودان أيام الحكم التعددي كان يعج بأكثر من 60 صحيفة والان بعد الانقلاب ليس هناك سوى صحيفتين الإنقاذ والسودان الحديث . وقبلها في أيام النميري الأيام والصحافة . ولم يكن هذا صدفة وإنما لضبط مخرجات الاعلام والتحكم فيما ينبغي توصيله للناس من معلومات  . ابتسم الجنيد وقال هذا كلام طيب مافيه شيء . ثم أخذ يحدثني عن العيون والأمن والتفتيش الذي تم للمرة الثالثة وهو مافسر لي سبب القلق الذي انتابه من شكوى بعض الطلاب مما اعتبروه دخولا في المحظور السياسي  . وحقيقة كانوا يعلمون بامر زميلتهم شقيقة الرئيس وهو مالم أكن اعرفه . توقف عم الجنيد عن الحديث ثم رجع الى الوراء قليلا ليفتح درجه ويخرج ورقة قدمها لي قائلا إقرأ !! فقرأت الورقة وهي عبارة عن طلب ، والمكتوب عليها التالي : أنا العميد عمر حسن البشير ضابط بالقوات المسلحة .. معسر وأعول أسرة كبيرة . وخلص الى أنه يطلب خفض قيمة رسوم باص الترحيل لأخته.

ثم أوضح لي عم الجنيد أن من يرسل رجال الأمن لتفتيش منزلي والكلية كل هذه المرات يريد هذه الورقة والتخلص منها .  وحده من أرسلهم يعرف السبب وراء الهجمة الأمنية وأنا أياض اعرف ماهو الهدف .. يعني هو عارف وأنا عارف وهذه الورقة قررت اليوم أرسالها الى لندن لدي خزانة آمنة هناك.
ثم قال لي بالله شوف الضابط المابيستحي ده أصلا أنا عملت الرسوم دي لضمان وصول البنات بالذات للكلية دون مشقة المياه في الطائف التي تسد الطرقات في الخريف . وللعلم أن الجنيد قد اتخذ هذا القرار عقب فيضان عام 1988 وكيف تحولت المنطقة المؤدية من خلف مطار الخرطوم وحتى الكلية في الطائف الى بحيرة واسعة بفعل مياه الأمطار.
قال عم الجنيد والله بعد ده الا أرحلها مجاني لأن 20 جنيه ليست شيء يذكر مقابل الترحيل في الشهر وهي خدمة وليست مقصدا لكسب المال . انتهى ذلك الحديث بأن طلب مني تقديم محاضرة عن الموضوع الذي رآه شيقا وأعني به الصحافة الصفراء وتاريخ الرقابة على الصحف وعد بجمع كل الأساتذة في الكلية ومعاودة التقليد القديم يوم طلب مني تقديم محاضرة كانت لكل الأساتذة والطلاب بالكلية حول السلم العالمي.

على أن ظروف سفري في أول أبريل 1990 قد حالت دون تحقيق الفكرة . والسبب الاخر هو أن أسمي كان يتداول وبشدة في تلك الأيام وخاصة من إذاعة الحركة الشعبية بقيادة د. جون قرنق ومفادها ” طارق الشيخ صحفي من صحيفة الميدان قد اعتقل وعذب ” وهذه قصة أخرى ..

بعد أول عودة لي الى السودان وبعد 14 عاما أمضيتها في منافي الدنيا كنت تواقا لزيارة الكلية فهي بيتي ومطرحي كما قال لي عم الجنيد يوم تكريمي ووداعي ..

وحقيقة فقد كنت شديد الإعجاب بأسلوبه في إدارة الجامعة وثقته بأنه يؤدي واجبه في إشاعة الوعي والاستنارة ، وبابتسامة كانت عنوانا له وفي أقسى اللحظات.

في نهار ذلك اليوم قمت بزيارة للصديق العزيز والفقد الكبير المحامي الأستاذ ميرغني النصري بمنزله في الطائف ثم توجهت الى كلية الخرطوم التطبيقية وتشرفت بلقاء أبنه خالد . ثم سألته عن خطاب عمر البشير.

فوجئ خالد بمعرفتي بما كان يعتبره سرا من الأسرار ضحك خالد وقال ” أنتو يالصحفيين مابفوتكم شيء “. ثم سألني مستغرباً: أيه العرفك بالخطاب؟ قلت له لأني رأيته بأم عيني من الوالد وأعرف أنه الان في لندن قال نعم .. قلت له طيب ماتديني نسخة منه ضحك واعتذر، وقال بيجي اليوم الذي ينشر ويذاع على الملأ.

ثم قال ماصدقنا بعد وفاة الوالد انهم أخيرا قد اعترفوا لنا بالكلية كجامعة علما بأن كل الجامعات التي تأسست وخرجت الى النور من بعدها منحت الاعتراف بها كجامعات ..

عمر البشير اعتبر أن الوالد قد انتقل الى رحمة مولاه ومات بسره فقرر البشير رفع الحظر عن الكلية. عليك رحمة الله الأستاذ عبد الله محي الدين الجنيد فقد عملت بعمر مديد على نشر الوعي والمعرفة والجمال تقبلك الله في جنات النعيم بقدر ما أحسنت لشعبك وستبقى الجسارة والصلابة ذكرى ملهمة للمناضلين والشرفاء من أبناء السودان .

د. طارق الشيخ
[email protected]

‫2 تعليقات

  1. طيب .. ما هي رسالتك التي تريد توصيلها لنا؟
    لكني مستغرب من الشيوعيين دعاة الاشتراكية ومناهضي الرأسمالية
    ليس من شيوعيتهم بل لتناقضهم وعدم صدقهم مع انفسهم ومع الفكر الذي يعتنقونه ويعتقدونه.. يعني ما وجوا مكان لكليتهم الا في عقر دار أحياء الاغنياء والاثرياء – بذور الرأسمالية – تراركين الفقراء والمساكين ومتوسطي الحال الذين يدعون انهم منحازون لهم.
    الشيء الاخر ما هو سبب تعلق الشيوعييين وهيامهم بامريكا وبريطانيا ودول غرب اوربا وهذه دول الرأسمالية ولم يصرون على تعليم اولادهم فيها ويحلمون بالهجرةاليها الم يكن هاجر بعضهم اليها فعلا.

  2. ياديك العدة الدخل الشيوعية شنو في كذب عمر البشير راجل كذاب .. والشيوعية ياجاهل ماتحدثوا عنها للفقراء هي دولة رفاهية وتطور للنظام الرأسمالي نفسه يعني في امريكا وبريطانيا والمانيا ماقالوا الحاج يوسف او السودان .. زعلان مافضل ليك الا تقول لي القراي ده ماتشيلوه ..

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..