العراق بين الإصلاحات والتغيير

ت + ت - الحجم الطبيعي

حين يكتب أحدهم مقالاً في صحيفة يومية أو حين يصعد منبراً في مكان عام ويلقي خطبة نارية حول قضية معينة منتقداً محتجاً معترضاً، فهو يعبر عن وجهة نظر شخصية، حدث كهذا ربما يترك بعض الأثر لدى من يصادفه، سواء أكان قارئاً أم ماراً توقف لبضع دقائق للاستماع لما يقوله المنبر، كما يحظى بكل تأكيد باهتمام السلطات الحاكمة.

هذه الظاهرة الاحتجاجية الفردية تتخذ مظهراً آخر وتكتسب قوة ويصبح لها تأثيرات كبيرة حين تتحول إلى موقف جمعي في تظاهرة أو انتفاضة أو عصيان مدني. فالتظاهرة، الممارسة الاحتجاجية الأكثر شيوعاً، عملية احتجاج جمعي بأقصى درجات الضجيج لأنها تجري عادة في الأماكن والساحات المهمة من المدن..

وقد تستغرق ساعات أو أياماً أو ربما شهوراً عدة ويترتب عليها اتخاذ احتياطات أمنية، وقد يتمخض عنها صدامات إذا لم تستطع القوى المنظمة لها السيطرة على الموقف، هذا إضافة إلى أن وسائل الإعلام تقوم بتسليط الضوء عليها وتغطيتها.

ساحات العاصمة العراقية وشوارعها الرئيسية تحتفظ بذاكرة ثرية عن التظاهرات التي مرت بها في العهدين الملكي والجمهوري والتي لم يخلو بعضها من صدامات دموية، قلة من تلك التظاهرات استطاعت تحقيق أهدافها.

هذه الساحات والشوارع تشهد منذ شهر حراكاً جماهيرياً لم يتراجع زخمه احتجاجاً على سوء الأوضاع، المطالب المعلنة غير شخصية أو حزبية أو فئوية أو مناطقية فهي تخص كل العراقيين ..

وفي صالح الجميع، القضاء على "الفساد" وهو في الحقيقة عنوان جامع لكل العناوين. فهل يستطيع المتظاهرون تحقيق هذا الهدف؟ التظاهرات هذه هي أول اختبار لحكومة العبادي في تعاملها مع الشارع الذي خاض مع سلفه المالكي صراعات عدة في أكثر من مدينة قوبل فيها بالصدود وبالقمع.

هذه التظاهرات التي ينظمها ويقودها مجموعة من الشباب غير المنتمين إلى كتل أو أحزاب سياسية جاءت متأخرة ولكن "أن تأتي متأخرة خير من أن لا تأتي أبداً" فليس هناك من وسيلة لإصلاح الوضع المتردي في العراق سوى تحرك الشارع، فقد وصل اليأس من المجلس النيابي المتهم أصلاً بالفساد منتهاه.

رئيس الوزراء العبادي قطع عهداً على نفسه بالضرب بيد من حديد على الفساد، وهو يحظى بدعم قوي من المرجعية الدينية في النجف، لكنه يفتقر إلى برنامج عمل وجدول زمني لذلك، كما يفتقر لأدوات الإصلاح ومحاربة الفساد، فالطاقم الذي يدير العملية السياسية تشريعياً وتنفيذياً وقضائياً لن يتناغم مع عمليات الإصلاح إلا ظاهرياً، لأنه يرى أن هذه التظاهرات تهدف إلى إسقاط أحزاب الإسلام السياسي وبالتالي النفوذ الإيراني.

التحالف الوطني الذي يقود العملية السياسية والذي ينتمي إليه رئيس الوزراء العبادي غير مؤهل للإصلاح لأن التهم بالفساد تطاله من خلال سجل طويل ومنتفخ من الفشل على مدى عشر سنوات من حكمه. فلا تزال مواقف هذا التحالف كما كانت إبان المعارضة محكومة بانقياده وتبعيته للخارج، وهو بحكم التربية والنشأة الباطنية والنفسية لقياداته وانغلاقهم الشديد على هوية انتمائهم الضيقة أقل انحيازاً للشأن الوطني.

العبادي اكتسب بفعل التظاهرات قوة لم تكن بالحسبان، فهناك من ينتظر منه الكثير لأن الحجم والعمق الاستثنائي للفساد لم يتسبب في هدر أموال العراق فحسب، بل تجاوز ذلك للاستهانة بسيادته وتعريضها للانتهاك، يتطلب مواقف وإجراءات استثنائية يتوجب على العبادي مواجهتها، فإن كان جاداً حقاً في محاربة الفساد، فإنه سيجد نفسه بالضرورة في صدام مع حزبه ومع كتلته النيابية ولن يجد له مكاناً فيهما.

خيوط اللعبة في أيدي التحالف الوطني الذي لم يخف بعض رموزه توجسهم من هذه التظاهرات، واتهام جهات علمانية بالوقوف وراءها لضرب الأحزاب الإسلامية، فلديه بالتأكيد تصوراته حول حجم الأزمة وطرائق إدارتها ورسم خطط التعامل مع الشارع لتهدئته وامتصاص نقمته عن طريق تقديم بعض التنازلات..

وربما التضحية ببعض الوجوه شريطة ألا يؤدي ذلك إلى إضعاف قبضته على مقاليد الأمور. فليس من المعقول أن ترفع مكونات هذا التحالف التي تخندقت في العراق بعمق راياتها البيضاء وتستسلم بسهولة.

التوازنات السياسية القائمة ليست في صالح القوى التي تدعو للتغيير نحو حكم مدني ديمقراطي، وهي لا تشجع على التفاؤل بحصول إصلاحات حقيقية، فمن الصعب في ظل الظروف التي يمر بها العراق وضعف القوى التي تدعو للإصلاح ..

وعدم وجود نخب قوية لقيادتها مواجهة هوامير الفساد التي تجذرت بعمق وقوة في الجسد العراقي، وامتلكت أسباب القوة من أموال ونفوذ ومواقع مفصلية في أجهزة الدولة وميليشيات مسلحة وسند إقليمي قوي

وامتلكت إضافة لذلك خبرات ميدانية في تضليل الناس وتمييع المطالب وشراء الذمم ولن تعدم استخدام مختلف الأساليب بما فيها اختراق هذه التظاهرات وحرفها عن أهدافها أو سلميتها وترويع المتظاهرين بشتى الوسائل وبضمنها الاغتيالات وهو ما حدث في أكثر من مدينة عراقية.

الإصلاح الحقيقي في العراق ليس عملية سهلة سالكة، وربما غير ممكنة، فما هو مطلوب إجراء عملية تغيير وتهيئة الأجواء لصعود نخب سياسية لقيادة البلد في إطار عملية سياسية جديدة بعيدة عن المحاصصة العرقية والطائفية تستبعد فيها الأحزاب التي تتبنى الدعوات الطائفية والمتورطة بعمليات الفساد. فتعليق العمل بالدستور وحل المجلس النيابي وتشكيل حكومة طوارئ لمدة معينة تجرى بعدها انتخابات جديدة بقانون انتخابي جديد لم تعد أفكاراً غير متداولة في الأوساط السياسية، بعد أن صرحت بها بعض القيادات داخل المجلس النيابي.

 

Email