Author

رشاقة حكومية في الصناديق

|
لا يعيب أي مؤسسة مهما كان نوعها ــــ حتى أكبر المؤسسات الحكومية والأهلية ــــ أن تتعرض لإعادة الهيكلة أو مراجعة وتعديل ارتباطاتها التنظيمية والإشرافية. على العكس تماما، إعادة النظر في هيكل الكيان وقنواته متطلب حتمي لمواكبة المتغيرات التي لن تتوقف أبدا. يحصل هذا اليوم لأعرق المؤسسات حول العالم، ومن ذلك ما حصل قبل بضع سنوات لهيئة الخدمات المالية البريطانية التي انشقت إلى جهازين، الأول يعنى بمراقبة السلوك المالي والآخر بالإشراف التنظيمي، وحظي بعد ذلك كل جهاز باستقلالية وتأثير أفضل من السابق. تطور كذلك الجهاز المسؤول عن إدارة الأعمال الصغيرة في أمريكا على عدة مراحل، تحول فيها من مؤسسة إقراضية تعمل تحت رعاية الرئيس فرانكلين روزفلت لمحاربة الفقر، إلى مؤسسة مستقلة شاملة تقوم بإدارة ودعم وتحفيز عدة فئات من المجتمع ولها دور محوري ومؤثر في الساحة الاقتصادية الأمريكية. مؤسساتنا الوطنية ليست بمعزل عن هذا النهج التطويري المهم، على الرغم من أن هذه الخطوات سلاح ذو حدين إذ تصنع المبالغة فيها أو التأخر عنها حالات عدم الاستقرار التي تتدهور بسببها أهم عناصر الإنتاج الإداري والتنظيمي كالتخطيط والمتابعة. ولكن ما أشارت إليه جملة القرارات الأخيرة المتعلقة بتمكين وزارة المالية من القيام "بمهماتها ومسؤولياتها واختصاصاتها الأصيلة"، يصنع لنا خطوة تاريخية إيجابية باتت ملحة أكثر من أي وقت مضى. لكل مؤسسة من مؤسسات التنمية المؤثرة التي تم تحويل ارتباطها أخيرا إلى عدد من الوزارات الأخرى، تاريخ مهم وعلاقات تنظيمية محددة تم تصميمها وفق ظروف معينة. اليوم تتغير هذه الظروف، وفي الوقت نفسه الذي كانت فيه مظلة وزارة المالية تزداد حجما باتت الوزارات الأخرى تتخصص وتنال أدوارا محددة أكثر أهمية. لذا من الطبيعي أن يتحول مثلا جهاز ضخم مثل بنك التسليف والادخار وهو يلامس الاحتياجات المباشرة لعدة فئات من المجتمع من مؤسسة تمويلية بأهداف اجتماعية إلى مؤسسة اجتماعية بإمكانات مالية. هذا التحول وإن أخذ مزيدا من الوقت إلا أنه في الأساس نتيجة طبيعية لقدرة هذه المؤسسات على المواءمة مع الحاجات والإمكانات من حولها؛ هذه المواءمة التي لا تحصل إلا بقرارات شجاعة ومباشرة تأتي في الوقت المناسب. تحول ارتباط هذه الصناديق مع وزارات أخرى يصنع لنا نماذج جديدة من المؤسسات المتخصصة التي تقترب أكثر من الواقع وتتعامل معه مباشرة. جل الانتقادات التي نالتها هذه الجهات في السابق يرتبط بعدم تواصلها المباشر مع مستفيديها أو من يرعى هؤلاء المستفيدين. يرتبط التواصل هنا بالكفاءة والفاعلية، أي قصور في عملية التواصل يصنع جملة من السلبيات المؤثرة كسوء الفهم وتعارض الأهداف والبعد عن تطلعات المستفيدين، وهذا ما حرصت القرارات الأخيرة على القضاء عليه. تصنع الارتباطات الجديدة لبنك التسليف وصندوقي التنمية الصناعية والزراعية ومؤسسة التقاعد وصندوق الاستثمارات العامة، تغييرا مهما في بعض العلاقات المؤسسية والشخصية الحكومية. يقع هذا التغيير ضمن آليات التوجيه المؤسسي لهذه الكيانات، وهو مؤشر إيجابي لحوكمة أفضل وتغييرات مستمرة في هيكل العلاقات الخارجية للمؤسسات الحكومية. الرشاقة الحكومية مطلب مهم ومستمر، ومحدد أساسي لقدرة هذه الجهات على تحقيق أهدافها. الملاحظ في مثل هذه الخطوات أنها تمنح الرشاقة والمرونة لكلا الجانبين، من يرتبط ومن يُفك عنه الارتباط، فالجهات المكتسبة لهذه العلاقات ستنال أذرعا قوية تساند أهدافها ووزارة المالية ستصبح أكثر رشاقة وتخصصا، تماما كما أشار القرار الأخير. من المنتظر أن تنعكس هذه القرارات الاستراتيجية على أجهزة أخرى تتبع وزارة المالية مثل مؤسسة النقد، فالأدوار المهمة لمؤسسة النقد كبنك مركزي تختلف تماما عن الأدوار الإشرافية التي تمارسها المؤسسة على المصارف وشركات التأمين والتأجير التمويلي، وتوزيع بعض أدوارها بين أجهزة أخرى كما خرجت لنا سابقا هيئة سوق المال، بات مطلبا مهما اليوم. ينتظر الكثيرون كذلك تجميع الأدوار المرتبطة بالمنشآت الصغيرة والأعمال الحرة وجمعها تحت كيان واحد بعد أن استمرت ولا تزال متفرقة تحت عدة وزارات وهيئات مختلفة، والأمر ينطبق أيضا على عديد من الجهات الأخرى. تحظى اليوم كل هذه الملحات التنموية بصورة مشجعة تثير التفاؤل خصوصا بعد القرارات الأخيرة والدور المهم الذي يقوم به مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية.
إنشرها